وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام
أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول
المرجئة، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه
أبا يوسف و
محمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.
كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا
الجهمية . ومنهم الإمام
أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام
الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن
أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات
الجهمية، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من
الجهمية وهم
الباطنية، فتجدون كلام
الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب
الباطنية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به
علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام
الغزالي رحمه الله ويكتب
المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
يا رب جوهر علم لو أبوح بـه لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!
فوقع في كلام
الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام
القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام
الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال
الغزالي رحمه الله في أول كتاب
المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن
المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب
الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.
كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ
ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن
ابن فورك في كتابه، وينقل عن
أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من
صحيح البخاري، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن
أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب
لينين و
استالين و
جورباتشوف؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.
رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.